لا للتدخين

مِن خصائصِ الإنسان الذي عرف سر وجوده وغاية وجوده أنه يعرفُ قدرَ نفسِه,‏ ويعرفُ قيمةَ الحياة ويعرفُ قيمةَ الصحة، هذه الصحةُ وسيلتُه إلى تحقيق ذاته لذلك يجب أن يسعى الإنسان العاقل سَعْياً حثيثاً إلى الحفاظِ على صحّتِه, لأنها رأسُ مالِه ووعاء عمله, واللهُ سبحانه وتعالى يقولُ: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ), وهذه الآية نص في التعامل مع حكم التدخين.‏






  التدخين والدماغ

إنّ سمومَ التدخينِ المنحلةَ في الدمِ إذا وصلتْ إلى الدماغِ يتلقاها الدماغُ بسهولةٍ فائقةٍ, وبنَهَمٍ كبيرٍ, هذا الدماغُ حينما يأتيه هذا السمُّ المنحل في الدم يشعرُ الإنسانُ بشيءٍ من الخدرِ, وشيءٍ من الفتورِ تارة; وشعوراً بالنشاطِ والتنبه تارةً أخرى, فالدخانُ مهدِّئٌ ومنشِّطٌ في آنٍ واحدٍ, وهذا هو سرُّ الإدمانِ عليه والتعلق به, هذا السمُّ في الدماغِ يضعِفُ تغذيةَ الأعصابِ, فتصابُ بالالتهابِ, وقد أجريت دراسةٌ علميةٌ على ستةَ آلافِ وثمانمائةِ حالةٍ, كان منِ نتائجِها أنّ هناك علاقةً واضحةً جداً بين الدخانِ وضعفِ الذكاءِ.‏




التدخين وجهاز التنفس
وجهازُ التنفّسِ هو أشدُّ الأجهزةِ تأثراً بالتدخينِ, لأنّه كعنقودِ العنبِ, كلُّ حبةٍ هي حويصلٌ رئويٌّ, والحويصلُ فراغٌ, تتمُّ في هذا الفراغِ مبادلةُ غازِ الفحمِ بالأكسجينِ, هذه المبادلةُ حيويةٌ, وأساسيةٌ جداً, وسموم الدخان تخرِّبُ الأنسجةَ المبطَّنةَ للأسناخِ الرئويةِ, وتُضْعِفُ الوظائفَ التنفّسيّةَ, وتؤدّي إلى التهابِ الأنفِ والبلعومِ المُزْمِنَين, وإلى التهابِ الحنجرةِ, والقصباتِ الرئويّةِ, ونسبةُ سرطانِ الرئة عند المدخّنين هي ثمانيةُ أمثالِ نسبته عند غيرِ المدخّنين.‏ التدخين والقلب
وأما القلبُ والأوعيةُ, فإنّ معظمَ الإصاباتِ القلبيةِ والوعائيةِ القاتلةِ تعود إلى التدخين، وقد أكَّد أطباء جراحة القلب أنّ أكثرَ المداخلاتِ الجراحيةِ التي يُجرونَها على القلبِ بسببِ آفاتٍ تعودُ في الدرجةِ الأولى إلى التدخينِ, إنّ ثمانينَ بالمائة من مرضَى القلبِ من المدخِّنين, وإنّ سموم الدخان تسبب تضيقاًَ دائمّاًَ في الشرايينِ, وقد يتحول التضيق إلى انسداد, فتكونُ الذبحةُ الصدريةُ, أو تكونُ الجلطةُ, أو يسبِّبُ انسداداً في شرايينِ المخِّ, فتكونُ السَكتةُ الدماغيةُ, أو يسبّبُ انسداداً في شرايينِ الساقَيْن, فتكونُ الموات (الغرغرين), ولابدَّ من قطعِ الساقِ حينئذٍ, إنَّ احتمالَ إصابةِ المدخنين بأمراضِ القلبِ والشرايينِ يزيدُ خمسةَ عشرَ ضعفاً على غيرِ المدخنين.‏
التدخين والحمل
أكثرُ حالاتِ الإجهاضِ والإملاص -ولادة الجنين ميتاً- والولادة قبلَ الأوانِ, ونقصِ الوزنِ, والتشوهاتِ الخلقيةِ, والوفاةِ في المهدِ, وربوِ الأطفالِ, والصممِ; كل ذلك يُعزَى إلى الأمِّ المدخِّنةِ, أمّا الشيءُ الذي لا يصدق; فهو أنّ هذا السمَِّ القاتلَ يشربُه الطفلُ المولودُ حديثاً مع حليبِ أمِّه, لذلك تعدُّ الإقياءاتُ المتكررةُ والتشنجاتُ, وتسرّعُ قلبِ الوليدِ مِن آثارِ سمومِ الدخانِ, التي تدخلُ جسمَ الرضيعِ عن طريقِ حليبِ أمّه المدخّنةِ.
كما أنّ كثافةَ سمومِ الدخانِ في ثديِ المرأةِ تؤدِّي إلى تخرشِ الثديِ, وهذا التخرشُ يؤدِّي إلى سرطانِ الثديِ عندَ المرأةِ المدخِّنةِ, وعلى صعيدِ النساءِ الحواملِ فإنّ التدخينَ يضرُّ بالنساءِ الحواملِ كثيراً, حتى لو كُنَّ غيرَ مدخِّناتٍ, فإنّ الزوجَ حينما يدخِّنُ أمامَ زوجتِه الحاملِ يجبُ أنْ يعلمَ خطورةَ فعله, تقولُ الدراسةُ العلمية: إن مادةَ (النيكوتين) تتسلَّلُ إلى الجنينِ فتصيبه بعاهاتٍ أو بعيوبٍ في النطقِ أو الذكاءِ.‏
التدخين السلبي
إنّ التدخينَ السلبيَّ هو التعرُّضُ لسجائرِ الآخرين في الأماكنِ المغلقةِ والمزدحمةِ, بل إنّ أخطرَ ما في الدخانِ أنّ أضرارَه لا تنحصرُ في المدخِّنِ نفسِه, بل تنتقلُ إلى مَن حَوْله, مِن زوجةٍ وأولادٍ, وزملاءَ في العملِ, وهذا الذي يجالس مدخناً هو المدخِّنٌ السلبيٌّ, وقد أوضحتْ دراسةٌ علميةٌ أجرَتْها مجموعةٌ من العلماءِ أنّ الدخانَ يؤدِّي إلى زيادةِ نسبةِ الكوليسترولِ في دمِ غيرِ المدخِّن, وهذا يؤدِّي إلى الإصابةِ بأمراضِ القلبِ, وسرطانِ الجلدِ, والبلعومِ, وغيرِها من الأمراضِ التي يسببها التدخين.‏

إنّ الأطفالَ الرُّضَعَ الذين يعيشون في غرفٍ ممتلئةٍ بدخانِ السجائرِ هم أكثرُ تعرّضاً للالتهاباتِ الرئويةِ, والنزلاتِ الشعبيةِ, مقارَنةً بأمثالِهم الذين يعيشون في غرفٍ نظيفةٍ, فالآباءُ الذين يدخِّنون يساهمون في إيذاءِ أولادِهم الصغارِ, وهذه حقيقةٌ طبيةٌ ثابتةٌ.‏
التدخين والخمر
إنّ مَعاملَ الدخانِ تضعُ التبغَ في أوعيةٍ محكمةٍ, ثم يصبُّون عليه من عصيرِ العنبِ, أو عصيرِ التفاحِ, أو أي شيءٍ من العصائرِ السكريةِ, ثم يضعون عليه الخمائرَ, ثم يُحكِمون الإغلاق لثلاثَ سنواتٍ, حتى يُعتقَ, وحتى يتشبعَ التبغُ بالخمرِ, والكحولِ, وهكذا يُحوِّلُ نباتَ التبغِ إلى أليافٍ هشّةٍ نضجتْ في الكحولِ, فيدخنُ الناسُ نقيعَ الخمرِ, وهم لا يعلمون, وهذا ما يجعلُ السيجارة تستمرُّ مشتعلةً حتى آخرِها; لأن هناك كحولاً متحداً بأوراقِ التبغِ, وهذا ما تشيرُ إليهِ جملة: (تعالَ إلى حيث النكهةُ) في معرضِ الدعايةِ للدخانِ, هذه الحقيقةُ موجودةٌ في كتابٍ ألَّفه أستاذ جامعي في القاهرة بعد زيارةٍ لمعاملِ التبغِ في أمريكا, وعرض في مكتبة الأسد قبل أعوام.‏
إنّ مِنَ الناسِ مَن يتوهَّمُ أنّ هناك دخاناً مصفىً, ودخاناً غيرَ مصفىً, هذا مَحضُ وهمٍ, فالدخانُ المصفَّى صُفِّيَ عن طريقِ الفلتر, والحقيقةُ العلميةُ الصارخةُ أنّ الفلتر يمنعُ دخولَ القطرانِ إلى الرئتينِ, ليس غير, أمّا السمومُ التي في الدخانِ فتنتقلُ كلُّها عبرَ الفلتر, وأود أن أُنبه إلى أنّ الدخانَ المستوردَ أو المُهرَّبَ مِن الدول المصنِّعة إلى دول الشرق الأوسط دخانٌ رديءٌ جداً, حيث أنّ نسبَ السمومِ فيه عاليةٌ جداً, إلى درجةِ عشرةِ أضعافٍ, العلبة نفسُها, والعلامةُ التجاريةُ نفسُها, والسعرُ نفسُه.‏
وأمّا عن الخسائرِ الناتجةِ عن الحرائقِ بسببِ أعقابِ السجائرِ فهي تفوقُ كلَّ أرباحِ الشركاتِ, والضرائبِ التي تُحصَّلُ مِن هذه الصناعةِ.‏
المدخن خائف دائماً
المدخن خائف دائماً... حقيقة خطيرة جداً, وهي أنّ الخالق العظيم تكريماً لهذا الإنسانِ, وتحقيقاً لسلامتِه, وصوناً له مِن العطبِ, جهَّزه بآلياتٍ بالغةِ التعقيدِ لِحفظِه مِنَ الأخطارِ.
فعلى سبيل المثال لو أنّ أَحَدَنا شاهدَ شيئاً مخيفاً, ماذا يحدث؟ تنطبعُ صورةُ هذا الشيء المخيف على شبكيةِ العينِ, وشبكيةُ العينِ تنقلُها إلى الدماغِ عبْرَ العصبِ البصريِّ, ليدركَ معنى هذه الصورةِ, بحسبِ المفهومات المكتسبة, والدماغُ مَلِكُ الجهازِ العصبيِّ, يخاطبُ ملكةَ الجهازِ الهرموني (الغدةَ النخاميةَ) عن طريقِ ضابطِ اتصالٍ, هو الجسمُ تحتَ السريرِ البصريِّ, هذه الغدةُ النخاميةُ تتلقى التماساً مِنَ الدماغِ بالتصرفِ مِن أجلِ السلامةِ, هي ملكةٌ, وعندها غدد هرمونيةٌ فعّالةٌ, ترسلُ هذه الغدةُ النخاميةُ أمراً إلى الكظرِ ليواجه الخطر, فيرسلِ خمسة أوامر هرمونية, الأولُ: يسرِّعُ القلبَ, والثاني: يزيدُ وجيبَ الرئتين, والثالثُ: يضيِّقُ الأوعيةَ المحيطيةَ مِن أجلِ أن يذهبَ الدمُ إلى العضلاتِ, لا إلى الجلدِ, والرابعُ: يزيدُ سكرَ الدمِ, والخامسُ: يزيدُ هرمونَ التجلُّطِ, كلُّ هذا بفعلِ هرمونِ الأدرينالين الذي يفرزُه الكظرُ.‏

إنّ الخائفَ يزدادُ نبضُ قلبِه فيتعب, ويزدادُ وجيبُ رئتيه فيلهثُ, وتضيقُ لمعةُ أوعيتِه المحيطيةِ, فيصفرُّ لونُه, ولو فحصَتَ دمَه لوجدتَ نسبةَ السكرِ عاليةً, وكذلك نسبةُ هرمونِ التجلُّطِ الذي يفرزه الكبدُ, سمُّ (النيكوتين) يفعلُ فعْلَ الأدرينالين نفسه, فعند المدخِّن هناك تسرعٌ في نبضِ قلبِه دائماً, وازديادٌ في وجيبِ رئتَيْهِ, وضيقٌ في الأوعيةِ المحيطيةِ, لذلك يبدو أصفرَ اللونِ, وفي دمِه زيادةٌ في هرمونِ التجلطِ, وهذا قد يسبب له الجلطة, وارتفاعٌ في نسبةِ السكرِ في الدمِ, وهذه الأعراض خطرة, وقاتلة أحياناً أخرى.‏

ماكلاريم شخصيةٌ جذابةٌ جداً, تستخدمُها شركاتُ الدخانِ في الدعايةِ للدخانِ, غالباً ما يُلبِسون هذه الشخصيةَ ثيابَ رعاةِ البقرِ, ويتكلم الكلامَ الذي يشجِّعُ الناسَ على التدخينِ, هذا الإنسانُ فَقَدَ حياتَه في ريعانِ شبابِه, إذْ أصيبَ بسرطانٍ في رئتِه بسببِ التدخينِ, وكانت آخرُ كلماتِه: لا تصدِّقوني, الدخانُ قتلني, وأنا الدليلُ على ذلك, وكنتُ أكذبُ عليكم.‏

وبقدر ما توصف نتائج التدخين بأنها خطيرة, بقدر ما يمكن تلافيها إذا امتنع المدخن عن التدخين, وكلما طال أمد تعاطي الدخان, كلما كان الإقلاع عنه أصعب.‏
حكم التدخين في الإسلام
وأخيراً يقول الله جل جلاله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).‏
وقد ثبتَ بالدليلِ العلميِّ الصحيحِ, والدراسةِ الموضوعيةِ, أنّ الدخانَ مِن الخبائثِ, فهو إذن مشمولٌ بقوله تعالى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).‏


 د. راتب النابلسي
صحيفة الثورة


إرسال تعليق

0 تعليقات