الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله، والنهي عن الابتداع في الدين، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾﴾ [الأعراف: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]، وقال -صلى الله عليه وسلم- : (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاته)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [1]. وفي رواية لمسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوى في شهر ربيع الأول، وهم في هذا الاحتفال على أنواع:
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة.
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك، ويقدم لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت.
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك.
وهو بجميع أنواع واختالف أشكاله واختالف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة أحدثها الشيعة الفاطميون بعد القرون الثلاثة المفضلة، لإفساد دين المسلمين، وأول من أظهره بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة: وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال الحافظ ابن كثير في «البداية»[2] في ترجمة أبي سعيد كوكبوري: «وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا... إلى أن قال: قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبيدية، وثلاثين ألف صحن حلوى... إلى أن قال: ويعمل الصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم».
وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»[3] : «فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات «طبقات القباب» حتى رتبوا فيها جوقًا.
وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم...»، إلى أن قال: «فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان...» إلى أن قال: «فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة».
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخرًا ومقترنًا باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان.
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع،وألا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه.
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي:
الاحتفال بمناسبة مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممنوع ومردود من عدة وجوه:
أولاً: أنه لم يكن من سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا من سنة خلفائه، وما كان كذلك فهو من البدع الممنوعة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)[4] .
والاحتفال بالمولد محدث أحدثه الشيعة الفاطميون بعد القرون المفضلة لإفساد دين المسلمين، ومن فعل شيئاً يتقرب به إلى الله –تعالى- لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر به، ولم يفعله خلفاؤه من بعده؛ فقد تضمن فعله اتهام الرسول بأنه لم يبين للناس دينهم، وتكذيب قوله –تعالى-: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، لأنه جاء بزيادة يزعم أنها من الدين ولم يأت بها الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ثانياً: في الاحتفال بذكرى المولد تشبه بالنصارى؛ لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح –عليه السلام-، والتشبه بهم محرم أشد التحريم، ففي الحديث النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمخالفتهم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (من تشبه بقوم فهو منهم)[5] ، وقال (خالفوا المشركين)[6] ، ولا سيما فيما هو من شعائر دينهم.
ثالثاً: أن الاحتفال بذكرى مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع كونه بدعة وتشبهاً بالنصارى –وكل منهما محرم- فهو كذلك وسيلة إلى الغلو والمبالغة في تعظيمه حتى يفضي إلى دعائه والاستغاثة به من دون الله، كما هو الواقع الآن في كثر ممن يحيون بدعة المولد، من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- من دون الله، وطلب المدد منه، وإنشاء القصائد الشركية في مدحه كقصيدة البردة وغيرها، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن الغلو في مدحه فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا عبد اله ورسوله)[7] ، أي لا تغلوا في مدحي وتعظيمي كما غلت النصارى في مدح المسيح وتعظيمه حتى عبدوه من دون الله، وقد نهاهم الله عن ذلك بقوله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: 171].
ونهانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن الغلو خشية أن يصيبنا ما أصابهم، فقال: (إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)[8] .
رابعاً: إن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع الأخرى والاشتغال بها عن السنن، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع ويكسلون عن السنن ويبغضونها ويعادون أهلها، حتى صار دينهم كله ذكريات بدعية وموالد، وانقسموا إلى فرق كل فرقة تحيي ذكرى موالد أئمتها، كمولد البدوي وابن عربي والدسوقي والشاذلي، وهكذا لا يفرغون من مولد إلا وينشغلون بآخر، ونتج عن ذلك الغلو بهؤلاء الموتى وبغيرهم دعاؤهم من دون الله، واعتقادهم أنهم ينفعون ويضرون حتى انسلخوا من دين الإسلام وعادوا إلى دين أهل الجاهلية الذين قال الله فيهم: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ﴾[يونس: 18]، وقال -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3].
مناقشة شبه مقيمي المولد:
هذا، وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهي من بيت العنكبوت ويكون حصر هذه الشبه فيما يلي:
1-دعواهم أن في ذلك تعظيمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
والجواب عن ذلك أن نقول: إنما تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته -صلى الله عليه وسلم-، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية، وأشد الناس تعظيمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كما قال عروة بن مسعود لقريش: «أي قوم، والله لقد وفتد على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له»[9] ، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيدًا واحتفالًا، ولو كان ذلك مشروعًا ما تركوه.
2- الاحتفال بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- النهي عن البدع عمومًا، وهذا منها، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا: ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ﴾ [الأنعام: 116]، مع أنها لا يزال –بحمد الله- في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم»، والإمام الشاطبي في «الاعتصام»، وابن الحاج في «المدخل»، والشيخ تاج الدين على بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- اللخمي ألف في إنكاره كتابًا مستقلًا، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه «صيانة الإنسان»، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
3- يقولون: إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- .
والجواب عن ذلك أن نقول: إن ذكرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- تتجدد مع المسلم، ويرتبط بها المسلم كلما ذكر اسمه -صلى الله عليه وسلم- في الأذان والإقامة والخطب، وكلما ردد المسلم الشهادتين بعد الوضوء وفي الصلوات،وكلما صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلواته وعند ذكره، وكلما عمل المسلم عملًا صالحًا واجبًا أو مستحبًا مما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه بذلك يتذكره ويصل إليه من الأجر مثل أجر العامل.. وهكذا المسلم دائمًا يحيي ذكرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويرتبط به في الليل والنهار طوال عمره بما شرعه الله، لا في ويم مولده فقط وبما هو بدعة ومخالفة لسنته، فإن ذلك يبعد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتبرأ منه، والرسول -صلى الله عليه وسلم- غني عن هذا الاحتفال البدعي بما شرعه الله له من تعظيمه وتوقيره كما في قوله تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: ]، فلا يذكر الله -عز وجل- في أذان ولا إقامة ولا خطبة إلا ويذكر بعده الرسول -صلى الله عليه وسلم-وكفى بذلك تعظيمًا ومحبةً وتجديدًا لذكراه وحثًا على اتباعه.
والله -سبحانه وتعالى- لم ينوه في القرآن بولادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما نوه ببعثته، فقال: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164]، وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ [الجمعة: 2].
4- قد يقولون: الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لاتقبل من أي أحد كان، وحسن القصد لا يسوغ العمل السيء، وكونه عالمًا وعادلًا لا يقتضي عصمته.
5- قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة، لأنه ينبيء عن الشكر لله على وجود النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال ليس في البدع شيء حسن؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[10] ، وقال -صلى الله عليه وسلم-(فإن كل بدعة ضلالة)[11] ، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة.
قال الحافظ ابن رجب في «شرح الأربعين»: «فقوله -صلى الله عليه وسلم-(كل بدعة ضلالة): من جوامع الكلم،لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله -صلى الله عليه وسلم- (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[12] ، فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواه في ذلك مسائل الاعتقادات أو الاعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة)[13] .انتهى.
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر –رضي الله عنه- في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هي)[14] !
وقالوا –أيضًا-: إنها أحدثت أشياء لمن يستنكرها السلف، مثل: جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع، فليست محدثة.
وقول عمر: (نعمت البدعة)، يريد: البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يريجع إليه، إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعة لغة لا شرعًا، لأن البدعة شرعًا ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه.
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبًا متفرقًا، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظًا له.
والتراويح قد صلاهها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمر الصحابة –رضي الله عنهم- يصلونها أوزاعا متفرقين في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- خلف إمام واحد كما كانوا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابة الحديث أيضًا له أصل في الشرع، فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده -صلى الله عليه وسلم- خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي -صلى الله عليه وسلم- انتفى هذا المحذور، لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- فدون المسلمون السنة بعد ذلك حفظًا لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- من الضياع وعبث العابثين.
ويقال -أيضًا-: لما تأخر القيام بهذا الشكر –على زعمكم- ، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكرا لله عز وجل ؟ حاشا وكلا.
6- قد يقولون: إن الاحتفال بذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم- ينبيء عن محبته، فهو مظهر من مظاهرها، وإظهار محبته -صلى الله عليه وسلم- مشروع!
والجواب أن نقول: لاشك أن محبته -صلى الله عليه وسلم- واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين –بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه-، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئا لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل:
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فمحبته -صلى الله عليه وسلم- إحياء سنته، والعض عليها بالنواجذ، ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولاشك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع، وحسن النية لا ييبيح الابتداع في الدين، فإن الدين مبني على أصلين: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة.
7- ومن شبههم: أنهم يقولون: إن في إحياء ذكرى المولد وقراءة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه المناسبة حثًا على الاقتداء والتأسي به! فنقول لهم: إن قراءة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به مطلوبان من المسلم دائمًا طوال السنة وطول الحياة، أما تخصيص يوم معين لذلك بدون دليل على التخصيص فإنه يكون بدعة (وكل بدعة ضلالة)[15] ، والبدعة لا تثمر إلا شرًا وبعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وخلاصة القول: أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلا، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والاقتداء به، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس، وإنما يقتدى بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلا، فالحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضَّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)[16] ، فبين لنا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا في سنة خلفائه الراشدين، إذن فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59].
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الرجوع إلى سنتته بعد وفاته، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي؟ فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله -تعالى- منه ومن غيره من البدع، فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
هذا، ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يرزقنا التمسك بكتاب الله وسنة رسوله إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
المصدر: كتاب حقوق النبي بين الإجلال والإخلال
0 تعليقات
تذكّر قول الله عز وجل
(( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))