كتبه محمد عبدالله الحجي
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا ومن تبعهم بإحسان.
أمر الله عباده في كثير من الآيات في الكتاب العزيز بالتوبة والاستغفار وقص لنا أحسن القصص لما لهما من عظيم النفع والأثر.
وتأمل في أسماء الله وصفاته كيف أن الله سبحانه وتعالى له من الصفات العظيمة الجليلة مالا تبلغه عقولنا القاصرة في إدراك معاني هذه الصفات، فقد وصف ربّنا نفسه بصيغة المبالغة الحقيقية المطابقة والمتضمنة لأسمائه وصفاته لا المجازية بالغفار – الغفور – الرحمن – الرحيم – الحليم – التواب – غافر الذنب وقابل التوب ذي الطول...
ليبن لك جلالة قدر من انطرح إليه متذللا منكسرا بين يدي مغفرته، وأنّه يريد ذلك سبحانه من عباده ويحبه كما قال تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}[النساء: 27]، وقال: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] ....
ووعد بالمغفرة والثواب لمن تاب وأناب كما قال: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70]، ليس العجب في مغفرة الذنوب بل في تبديلها إلى حسنات، وهذا التبديل جاء مقيدا بثلا ث قيود:
1-التوبة وهي أشمل من الاستغفار.
2-والإيمان وأركانه معروفة.
3-والعمل الصالح بشرطيه وهما الإخلاص والمتابعة.
كل ذلك ليدل على أهمية التوبة والاستغفار وجلالة فضلهما وحاجة المسلمين طائعهم وعاصيهم إليها.
إنّ ذكر قصص الأنبياء وكيفية رجوعهم وتوبتهم السريعة إلى الله لم تأت في معرض الاستهلاك القصصي الفارغ من محتواه كما نقرأ لبعض المتخصصين في هذا الفن، كلا بل لأنّ مراميه تنشئ في أتباع قارئيه جيلا قويا لهم قدوات يسيرون على دروبهم يخرجون للأمم يقودنها إلى طهارة النفوس والأبدان بعد أن تشبعو بمنهج التصفية والتربية بتأثير القرآن وهدي سيد الأنام {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، منهج قويم، دستور واضح للأفراد والجماعات بشتى مراكزهم وألوانهم وطبائعهم.
أحسن القصص جاءت بمنهجية عالية الوضوح والقيادة لتعديل السلوك بأقصر وقت لما عرف من تأثير القصة السريع على السلوك الإنساني وليس هذا مجال سرده.
ومن حيث التسلسل التاريخي نجد أنّ طلب التوبة والاستغفار من الأنبياء من أهم الأولويات وأولى المهمات فبها تذلل الصعاب وينكشف العذاب.
فعن الأبوين عليهما السلام، لما أهبطا إلى الأرض بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة عليهم {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وعن نوح عليه السلام من أولى العزم من الرسل، قد بذل في دعوة الله كل جهد صابرا محتسبا ولم يؤمن معه إلاّ قليل وكان ابنه ممّن أعرض عن دعوته {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، تاقت نفسه بأن يكون ابنه معه وعلل عاطفة الأبوة الفطرية كوالد رحيم على ولده {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45]، فقال الله له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46]، فامتثل وبادر بسرعة عالية على مكانته وقدره عندالله ولم يقل (أنا أنا وفعلت وفعلت). فأين بعض الدعاة عن هذا المسلك النبوي القويم في الآية التي تليها {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، كيف يقول هذه الكلمات مع أنّه لم يعص الله وبذل في الدعوة ألف سنة إلاّ خمسين عاما لم يتملكه الغرور واستكثار العمل العظيم فطلب العفو والمغفرة من الله باستجابة سريعة، وخشي من كلمة قد تذهب به كل مذهب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليتكلم الكلمة ما يتبين فيها يزل أبعد ممّا بين المشرق» وحاشاه عليه السلام، ولكن كما قيل حسنات الصالحين سيئات الأبرار.
وطلبه المغفرة في آخر آية من سورة نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} [نوح: 28]، دليل نقاء السريرة والطهر الذي كملهم الله به.
وموسى الكليم عليه السلام لما قتل الفرعوني من غير قصد، حيث قال لفرعون مبينا أنّه ما قتله متعمدا {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20].
أي: من المخطئين غير عامد للقتل، وكان إنابته لله سريعة {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً}[القصص:33]. وقال في معرض إنكاره على قومه لما عبدوا العجل وغضبته الشديدة عليهم وعلى أخيه هارون ظنا منه التقصير، وكانت بيده الألواح فألقاها من يده مع أنّ الله كتب التوراة بيده، وناوله إيّاه من يده إلى يده، أناب بسرعة لهذا الظن الخاطئ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ}[الأعراف:151]، ثم لما ذهب معتذرا مع السبعين من خيار قومه وحصل ما حصل لهم من العقوبة قال:{إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}[الأعرافّ: 155].
وأمّا داود عليه السلام فقد بادر إلى الاستغفار بسبب عدم تثبته في الحكم بين المتخاصمين. وترد هنا شبهة،كيف وقد عصمه الله من الذنب ولكنّه لا يدل على ذلك، لم يكن قضاؤه باتاً خاتماً للشكوى، ففوجئ بدخول الخصمين عليه من غير سابق استعداد ليحكم بينهم {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ، وكان قصره منيعا بالحرس فلم يظهر منه التثبت اللائق به. ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع، كان فتنة وامتحاناً من اللّه بالنسبة إليه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]، تداركاً لما صدر منه ممّا كان الأولى تركه، أوّلاً، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة، قال السعدي رحمه اللهفي قوله تعالى {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40]
"منزلة عالية وقربة منا {وَحُسْنَ مَآبٍ} والفائدة ما قصه الله علينا من لطفه به وتوبته وإنابته وأنه ارتفع محله فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها". انتهى كلامه.
فأين هؤلاء الظانين بإخوانهم وأهليهم ظن السوء حتى أصبحت حياتهم جحيما بل وافتراء وعدوانا وتشويها لسمعة إخوانهم... أين توبتهم وتصحيح مسارهم.
هكذا ينبغي لمن دون الأنبياء أن يتأسوا بأفعالهم بسرعة الرجوع والتوبة بصدق حتى يبارك الله لهم في حياتهم.
وأمّا خاتم الأنبياء والمرسلين الذي غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» [رواه البخاري عن أبي هريرة].
والمعنى: يطلب المغفرة ويعزم على التوبة.
أخرج النسائي بسند جيد من طريق مجاهد عن ابن عمر أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم وأتوب إليه» في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة.
وتراه برحمته الكبيرة صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أين هي الخيرية لأمته التي بحث ويبحث عنها الكثير، يبحثون عن السعادة وها هو النبي الكريم يرشدهم لها.
أخرج النسائي من طريق عطاء عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع النّاس فقال:«يا أيّها النّاس توبوا إلى الله، فإنّي أتوب إليه في اليوم مائة مرة».
وإلى حرصه عليه السلام على قلبه الشديد تأمل ما يقول: عند مسلم بلفظ «إنّه ليغان على قلبي وإنّي لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ».
والمراد بالغين فترات عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه، فإذا فتر عنه لأمر مباح كالأكل والجماع ومصالح النّاس ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك ممّا يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي فاستغفر عنه وقيل هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس. قال ابن بطال:"الأنبياء أشد النّاس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير".
وللحديث صلة عن أسرار وفضل الإستغفار.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
المصدر. طريق الاسلام
0 تعليقات
تذكّر قول الله عز وجل
(( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))